في مثل هذا اليوم


في مثل هذا اليوم من سنة 2000، توفي محمد الدُّرة بين يدي والده برصاص الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.
عرفنا تفاصيل استشهاده وثرنا باسمه أشهرا طويلة، لكن هل مازالت قلوبنا وقلوب الفسلطينيين تتذكر أن ما استشهد من أجله الدرة لم يتحقق بعد؟



C.I.N

السلام عليكم
يسعدني اليوم أن أقدم لكم، وحصريا على مدونة المغربية، القصة القصيرة (C.I.N) لكاتبها المتألق الشاب أيمن قشوشي صاحب رائعة (كلكن عذراوات) . وفي انتظار إصدار المجموعة القصصية الثانية للكاتب  إن شاء الله، سأتمتع وإياكم بقراءة هاته الكلمات المميزة. 



استيقظت باكرا هذا الصباح. لا زال حديث الأمس جاثما على صدري يرهق أنفاسي. كنت عائدا من البيار حيث أقضي يومي بطلا للحي, عدت منتشيا بفوزي الكاسح على منافس الدرب المجاور. دخلت المنزل فوجدت الجميع بانتظاري.
ولأني كنت متعبا تهاويت على الكرسي البلاستيكي وسط الدائرة. والدي أمامي، أخي عن اليمين، وأخي الآخر عن اليسار فيما كانت والدتي ورائي تطرز جلبابا صوفيا.
 غدا ستذهب لتقديم طلب الحصول على البطاقة الوطنية وإلا ستطرد. هكذا كلمني من دون مقدمات والدي الغاضب.
قلت مستغربا: كيف ستطردني من المنزل؟ وابتسمت.
ليس من المنزل، بل من المدينة كلها، ولست أنا من سيفعل. القانون الأول للثورة الجديدة يفرض ذلك. بدل أن تضيع وقتك ونقودي في البيار كل يوم. غدا ستقدم الطلب.
تحدث أخي الجالس على يميني بصوته البارد الوقور: لن يستغرق الأمر طويلا أم تريد أن تعيش باقي عمرك بعيدا عنا تائها!
كنت سأعترض، فقد ضربت موعدا مع منافس الدرب الشرقي في نفس الوقت، لكن الأمر يبدو ملحا وخطيرا وقد أنهيه بسرعة وأعود إلى البيار.
قبل أن أخلد إلى النوم ذكرتني أمي بأن أوصل الخبز أولا في الصباح قبل أن أقدم الطلب.

مررت  من أمام السقاية العمومية، اشتريت الحلوى، وعرجت على الفرن لأضع الخبز.
مهمة مضنية ترهقني كل يوم. أحس وكأنني أحمل العالم وأنا أنظر إلى العجين الأبيض المنتفخ الذي يتحرك يمينا وشمالا .تلتصق خبزة بأخرى ويعجبني منظرهما وهما متعانقتان حب فطري كحميمية سائقين ليلا وهما يلتقيان على الطريق. لم يسبق لي أن أسقطت الطبق. أمر قافزا على الحفرة الكبرى تعقبها عتبة مرتفعة أتجاوزها بخفة. كل صباح أقول لن أسقطه، يرتفع الضغط وتتزايد أنفاسي بسرعة وأنا أقترب من العتبة المرتفعة وأتخيلني حصانا قافزا على الحواجز أرفع القدم اليمنى ببطء ثم تتبعها اليسرى برشاقة فتسري رعشة خفيفة بالانتصار وأرمي العالم من يدي على ساعدي الفران.

بعد ذلك سلكت الطريق الساحلي، رائحة البحر حادة كنصل سكين. هذا الكائن الرمادي، أريد أن أكون شبيهه لا تربة تحتي ولا فوقي، سابحا أطير، أقاتل الهواء والزرقة، وهذا الفضاء لحافي، لا لون يخيفني، لا صوت يعلن نهاية خطواتي، لا عيون تنهش جسدي وتستبق أحلامي . بالونة في السماء ولا إبرة تنخر تاريخي وتعريني من الاستواء إلى الاستواء. سلم علي واعصر يدي. ألمي هوية الضائع.
أنا لا أعرف سوى شعاع البيار لا آبه لا لمطر ولا لتاريخ صحيفة ولا لخبر انقلاب ولا لموت زعيم ولا للون ثورة. بائع الحلوى يعرفني لا زال مخاط أنفي مرسوما على الحائط المقابل للمدرسة، لو كان الحي يطوى لجمعته وخبأته في جيبي وغادرت المدينة والعالم بلا ندم.

دخلت البناية، حيطان نهشتها الرطوبة ورائحة الزفت تقتحم صدري .كنت أسعل بلاإرادية وأضع كم قميصي على أنفي الى أن انتبهت إلى اتساخه فكنت مضطرا إلى اخفاء يدي في جيب سروالي.
تجاوزت الباب الفسيح واتجهت إلى غرفة زجاجية كتب عليها استقبال وإرشاد. الزجاج ممسوح بعناية كبيرة، تقدمت  بسرعة، وقفت أمام النافذة المفتوحة، كانوا اثنين يشربان الشاي لم يرفعا رأسيهما.
سألني الأقرب إلي : أعطني بطاقة الهوية.
 - ليست لدي.
 - اذهب ولا تعد إلا بها.
 - أنا أريد استخلاص بطاقة هويتي.
 - الطابق الثالث الغرفة الأولى
كانت الأدراج مفتوحة أمامي، صعدت بخفة وأنا أمني النفس بعودة سريعة إلى الدرب.
كان المبنى خال من فوق رغم الأصوات المتعالية التي لم أستطع تحديد مصدرها، كنت وحيدا في ممر طويل لا تبدو نهايته، تجاوزت عمدا باب المصلحة المعنية ثم عدت وطرقت الباب وانتظرت إشارة الدخول.
لم يتأخر ذلك وبدت لي طريق العودة سالكة وقريبة.
الغرفة متسعة والجدران حديثة الطلاء بيضاء عاكسة للضوء الأصفر، لا صور أو ملصقات تعلوها، مكتب واحد وكرسيان جلس عليهما المكلفان أو العاملان أو الشرطيان أو... متى أعود إلى الحي؟
وقفت أمامهما. الأول يخفي تقاسيم وجهه بنظارات سوداء كبيرة و يضع قدما على المكتب الفسيح الفارغ، فيتبدى قاع حذائه وبه فجوة يطل منها جوربه الملون، إن سلمني البطاقة سأتوسط له عند الحاج الخراز. أما الآخر فيبصق باستمرار ويدخن بنهم كبير، غيمة رمادية تحول بيني وبينه.  كان يقلب صفحات جريدة قبل أن يبدأ في  تفحصي من أعلاي إلى أسفلي ثم من أسفلي إلى أعلاي. وجدت متعة في مسايرة نظراته .نظرت إلى حذائي الصدئ وسروالي الأحمر المفضل الذي أرتديه من دون حزام به ثقوب في الجيب الأيسر وصدفة ناقصة.
طالت مدة وقوفي. فبادرت بفتح شفتي إلا أن الثاني بصق بصوت مرتفع وكأنه يحذرني، ابتلعت ريقي وأحنيت رأسي إلى أسفل أنظر إلى البلاط بغباء.
مع مرور الدقائق بدأت أنفصل عن المكان وأفكر في البيار واللعبة الجديدة ومنافسي من الدرب المجاور والتقنيات الجديدة التي اكتشفتها.
وضعت يدي على الطاولة كان من الأفضل أن أبقى جالسا على كراسي الممر.
وأخيرا جاء الفرج ونطق الأول وبدت لي صورتي في البطاقة بجرح غائر على جبيني.
 - ماذا تريد ؟
 - أريد بطاقة الهوية.
 - يجب أن يأتي المعني بالأمر.
 - أنا هو.
 ـ ولماذا جئت اليوم بالضبط؟ سمعت إذن عن القانون الجديد. وأطفأ الثاني السيجارة بعصبية.
ارتبكت قليلا، أكيد لو لم يفرض علي أبي ذلك ويهددني بالطرد من الحي لما جئت إلى هنا. صمت ولم أجب وبدأت قدماي تتعبان من الوقوف.
- أأنت من مؤيدي ثورتنا المجيدة ؟
ـ أحب الثورات جميعها، خصوصا الوردية حيث تناثر البنفسج في كل مكان ولعبت مجانا في البيار وغنيت حتى الصباح. لكنها لم تدم سوى يوم واحد.
ـ أأنت إذن وردي؟
ـ نعم لكنني لست نمرا، أحب جميع الألوان أحب اللون الأحمر وليلا أحلم أنني جندي أومحارب، يتجاوز الجبال، يقطع الصحاري، بطل لا يقهر.
قاطعني الثاني وقال: أنت إذن تجيد استعمال السلاح.
لم أفهم سؤاله وأرجعت يدي إلى جيبي المثقوب وبدأت أفرك فخذي.
يقفز من على الكرسي ويبصق قربي .
- تحدث أي سلاح تجيد استعماله ؟
ابتسمت وقلت بهدوء : لا لست محاربا أحلم فقط لم أر سلاحا في حياتي.
كان ينظر باستمرار إلى يدي وهي تتحرك وكأنه يعتقد أني أخفي مدفعا صغيرا أخرجت كفي بسرعة وإذا به ينزل رأسه تحت المكتب.
مضت ساعة.
أريد بطاقة الهوية وأنا أنظر إلى نظارتي الأول بكل ثبات كما فعلت مع والدتي لما تركت الثانوية.
أخرج أوراقا بيضاء وقلم حبر وبدأ يكتب بعنف كبير وهو يقول:
- ليس من السهل الحصول على بطاقة الهوية.
- كل شيء يهون من أجل أن أبقى في الحي.
- لماذا تجاوزت باب المكتب وعدت بعد ذلك؟ تظن أننا لم نرك أيها الوردي.
فاجأني سؤاله، رفعت يدي اليمنى عن المكتب وأحسست بنمل يسري على وجنتي وحكة في ظهري، الباب قريب ولن يستطيعا اللحاق بي، لم أجبه.
- أنت تصعب الأمور. سبق لك وأن خالفت القانون، اعترف.
قلت بسرعة : أبدا.
تحدث الثاني: إني أعرفك جيدا ألا تسكن المنزل السفلي الأخير في  الحي الأصفر.
ازداد وضوح ارتباكي وكأني أحلم كيف يعرف؟ لم أره في حياتي أيكون، والدي قد سبقني وأوصى بي، احتمال مستبعد جدا. يقطع أفكاري صوت الأول الخشن.
- اعترف بسرعة.
- اشتهيت أستاذة في الإعدادي.
- كنت تراقبها وهي تغادر باب المؤسسة.
- كيف عرف ذلك؟ نعم لكني نبذتها منذ أحببت بطلة فيلم هندي، هي عشيقتي الآن.
- إذن تعترف باغتصابك للأستاذة وبخيانتها بعد ذلك.
لم أستوعب شيئا فإذا بالثاني يضع قدميه على الكرسي وركبتيه على المكتب ويقول : اقترب
لم أرد أن أبتعد أكثر عن الباب المفتوح .رائحة ألعن من الزفت تنبعث من جسده. يضيف بنبرة مستفزة:
- أتريد سيجارة؟
- أنا لا أدخن، ممكن كأس شاي.
يضحكان إلى أن تظهر أضراس الأول السوداء.
- أريد بطاقة الهوية أرجوكما.
- هل سئمت صحبتنا بهاته السرعة؟ ستدخن أمامنا، أكمل ماذا بعد الأستاذة؟
كرهت هاته اللعبة التافهة. الجوع يتسرب إلى خلاياي ويختلط بالدخان.
- في الابتدائي لم أخبر المعلمة عن صديقي الذي كان يرسمها عارية.
- أتعرف ابنة الحاج الكراب التي تسكن أمام دكان البقال؟
- كانت تصرخ كثيرا ويتحلق حولها شباب الحي، مرة يحملونها فوق الأكتاف ومرة يلتصقون بها حتى تغرز أظافرها في الجير الأبيض.
لم أقترب منها أبدا، ولا حدثتها ولا سألت عنها كانت تدرس معي في نفس الفصل وكانت تمضغ العلك بصوت مسموع وتحلق عانتها أثناء حصة الاجتماعيات صباح كل سبت.كانوا يقولون أنها تعاشر رجلا في سن أبيها.
- كيف تعاشره؟ نريد التفاصيل .
- لم أرهما ولا يهمني أمرها.
- ألم تكن تنظر إليها ليلا وهي عائدة كغيمة الخريف مثقلة بالعطور ؟
- أبدا أنا أشتهي ملوحة الفشار والبحر وأشعة البيار وهي ترتسم أمام عيني كل ليلة وفمي مفتوحا يقضم الهواء البارد.
- البطاقة للإنسان المؤمن بمبادئ ثورتنا.
كدت أسأله عن أي الثورات يتحدث؟ عن لونها لكني اختصرت الطريق وأجبت بحماسة كبيرة:
- أنا مؤمن  بجميع الألوان بكل ما تريد، بك أنت و الأستاذة، بدخان السجائر ورائحة الزفت، مؤمن  بجميع الثورات  منذ ولدت إلى الآن، أريد فقط البطاقة وأن أخرج من هنا.أريد أن أبقى في الدرب.
- ألديك صورة وأنت تؤيد ثورتنا المجيدة؟
- لم أكذب كنت أشرب الشاي الساخن وأمضي الصباح في البيار، وكلما سمعت الصراخ في الحي رافقت الجماهير الثورية إلى آخر الشارع وعدت إلى البيار قبل أن تضيع اللعبة.
نظر الأول إلى ساعته وهمس: حان وقتهما سأدخلها أولا. سنرى إن كان يقول الحقيقة.
وسمعت صوتا يشبه تفرقع الفشار  يقترب وتتزايد حدته. التفت ورأيت أستاذة الإعدادي وقد ازدادت جمالا. لم يتطلب مني الأمر غير ثوان. اندفعت نحو الباب المفتوح وركضت بسرعة أقفز الدرج وأتجاوز مدخل البناية الرئيسي. وكلما أردت الوقوف لالتقاط الأنفاس لا أجد إلا الزفت الثقيل وضحكات الأستاذة المتعالية تتبعني إلى أن وصلت إلى حينا .حينها اختفت إلى ما لا نهاية.

حصلت على البطاقة بعد أشهر.علمت كذلك أن الثورة الجديدة ألغت قانون الطرد. قبلت البطاقة وضعتها على رأسي ثم أعدت تقبيلها ورقصت قافزا حولها أريتها لجميع سكان الحي  وأخذت صورا لي وأنا أحملها.
أصابني الدوار وأنا أرى الصورة الشمسية في أعلى البطاقة.  ليست لي، لا تشبهني، لست أنا، ركضت إلى المرآة وتأكدت. الاسم والنسب ومقر السكن ليسوا لي، أكيد أخطأوا في البطاقة. أخبروني فيما بعد أن كل البطاقات كانت متشابهة، نفس الصورة والاسم والنسب للجميع، الأرقام فقط هي التي تختلف.
ذلك المساء وضعت البطاقة في الصندوق الحديدي ونظرت إلى العدم من فوق هضبة سيدي بوزيد. استنشقت هواء بحريا يغنيني عن الزفت والجير والدم ولا يسألني عن هويتي. صورتي تنطفئ في العدم في هاته المسافة القصيرة الطويلة ذرات متناثرة على النتوأت الصخرية الحادة.

بقلم: أيمن قشوشي

منشطو جامع الفنا.. أي مستقبل؟

             هاته التدوينة كتبت في إطار مجموعة من المواضيع حول جامع الفنا بعنوان: عين على الساحة


تعتبر جامع الفنا القلب النابض لمراكش، والعين التي لا تنام في هاته المدينة الحمراء. وتحتل الساحة مكانة جد مميزة في قلوب المراكشيين وفي أذهان كل السياح المغاربة والأجانب الذين سبق لهم زيارتها. فجامع الفنا التي تعتبر تراثا إنسانيا عالميا شفويا، تجمع في رحابها الفن والتاريخ والحضارة والثقافة والسياحة والتجارة والصناعة والمستقبل و..

إلا أن منشطي الساحة من "حلايقية " وغيرهم، يعانون من عدة مشاكل اجتماعية واقتصادية، تجعلهم يجاورون الفقر الذي يطالهم مع أسرهم. وقد كثر اللغط مؤخرا حول المنح المقدمة للساحة من طرف اليونيسكو، واستئثار بعض الأشخاص بها دون غيرهم مما أدى لنزاعات وصراعات مختلفة بين منشطي الساحة، أو بينهم وبين المسؤولين، وصل صداها لمحاكم المدينة الحمراء، وتحدثت عنها العديد من المنابر الاعلامية الوطنية والدولية.

في تجربة هي الأولى لي مع الMicro-trottoire، أقدم لكم مقتطفات من حوار بسيط حول الوضعية المزرية التي يعيشها منشطوا الساحة من حلايقية وعيساوة ونقاشات، مع تمنياتي أن تصل آهاتهم للمسؤولين ويستفيدوا كما البقية من خيرات جامع الفنا ومدينة مراكش. على أن أقدم لكم في مواضيع قادمة التفاصيل الدقيقة لما باح به بعض  فعاليات الساحة من أسرار حول الوضعية المهينة لهم.

               
الميكروطروتوار من تصوير محمد كرايمي، وتسجيل محمد معناوي. فشكرا جزيلا لهما.