المغضوب عليهم

أقطن في حي مراكشي، قيل بأن ساكنته من "المغضوب عليهم" بعد أن انتشر في ثمانينات القرن الماضي، خطاب للملك المغربي الراحل الحسن الثاني، يعاتب فيه بشدة بعض الثائرين من مثيري الشغب في العديد من المدن المغربية ومن بينها مراكش، ويصفهم ب"الأوباش".
حكي لنا حينها أن مدينتي عرفت أحداثا مماثلة في نفس الفترة، شارك فيها سكان أحياء عديدة. لكن أكثر المعارك ضراوة كانت عندنا، ومنذ ذلك الحين أصبحت صفة "الأوباش" لصيقة بسكان حينا... فصرنا بعدها جميعا، من المغضوب عليهم..
وتاريخيا "غُضِب" علينا قبل تأسيس الحي، فالشيخ والفقيه الذي سمينا باسمه، كان طفلا صغيرا طردته أسرته من منزله مخافة العدوى بعد أن أصيب بالجذام، فما كان منه إلا أن سكن غارا خارج سور مراكش، وعاش هناك طيلة حياته حتى لقبوه ب (مول الغار)، وبقي يحفظ القرآن ويدرس العلوم الشرعية، مما جعل الناس يتعجبون منه ومن قدرته على البقاء وحيدا في ذلك المكان المهجور.
ومع وفاته، قدس المراكشيون اسمه وجعلوه واحدا من رجالاتها السبعة، وسكنوا جوار ضريحه، مقيمين بنايات عديدة ومنازل جديدة، صانعين بذلك أول حي مراكشي خارج السور.

أما في زمننا هذا، فما أن تسأل أي شخص عن اسم (الحي) حتى يخبرك بأنه المكان البعيد البعيد البعيد جدا والخطير في مراكش، حيث يجتمع المدمنون والسكارى والمجرمون.. الخ الخ الخ.. وبعيدا عن صحة هاته المقولات من عدمها، فتلك هي الصورة النمطية التي قد رسخت في أذهان الذاكرة المراكشية،  وأصبح يعرف الآخرون بها منطقة تضم أزيد من ثلث ساكنة مدينة مراكش.

ومضت السنوات فكبر الحي بعدها وكبر أبناؤه، وكثر سكانه وكثر معهم ناهبوه.. وبُصمت صورة المغضوب عليه في الذاكرة المراكشية، ولم يجرؤ أحد على الإقدام على تكسيرها خوفا من غضب وعقوبات رسخت في الأذهان. بل استغل البعض الفرصة كي يزيد ثرواته على حساب شعب بأكمله كان يقطن الحي..واستمر الأمر كذلك رغم بداية العهد الجديد الذي استبشر به الجميع خيرا، لكن الأوان كان قد فات، فالثروات المادية والاقتصادية والبشرية استنزفت وما عاد المكان قادرا على مواكبة التطور الذي عرفته باقي الأحياء في مدينة مراكش.

لكن ما يجعل في الحلق خصة، أن هذا الحي ورغم امكانياته المحدودة، قد أخرج من رحمه مهندسين وأطباء وسياسيين وفنانين ورياضيين وأطر عليا، بلغ البعض منها مناصب جد مرموقة، وكان بالإمكان لو تكاثفت الجهود أن تحقق المستحيل وتنهض بالمكان من القعر لتغيير الصورة الخاطئة التي علقت في الأذهان عنه.
هؤلاء الذين كبروا لم يفكروا بالعودة أبدا أو تخوفوا من الأمر، واقتنعوا أن ما يقال عنهم هو حقيقة مفروغ منها، فصار بعضهم يتنكر لسكنه هناك ويقنع نفسه قبل البقية بأنه يعيش بعيدا، بادعاء الانتساب لأحياء مجاورة أخرى أو الهجرة للأبد.. فصار المكان " مغضوبا عليه" من أناسه.. للأسف.

ما حدث لحينا يشبه كثيرا مصير بعض المناطق والأحياء في بلدنا الحبيب، تلك التي تنكر لها أصحابها فابتعدوا عنها ونسوا الارتباط بها لسبب أو لآخر. وفي المقابل نجد أمكنة عديدة زرعت حب الجذور في أبنائها، فكانوا يهيمون  في أرض الله ويعودون لصلة الرحم، ويعملون على شراء أراض هناك وإقامة مشاريع تفيدهم وتفيد معهم سكان المنطقة التي اشتد عودهم من ترابها.
وأنا أرى بعض المغاربة هكذا، نهضوا بالنافع من أرضهم، استغرب من الذين غضبوا وابتعدوا عما اعتقدوه لن يفيدهم بشيء منها. متناسيين أن الأرض الجوفاء هي نفسها التي تعطي القمح فقط اذا ما سقيت.. فمن يسقي الأرض غير أصحابها؟

وأنا بعيدة عن حيي، أشعر بالحنين للمكان الذي يملكني ويأسرني ويزعجني، للمكان الوحيد الذي شعرت فيه بالأمان رغم قولهم بأنه يجمع السكارى والسارقين والمدمنين أحيانا..
أشعر بالحنين لكل تلك الوجوه السمراء الغريبة التي تتزاحم كل مساء في الشارع الشهير، بعيدا عن روتين المنازل.. تحدث بعضها عن كل شيء ولا شيء، وتسرد قصص أناس نالوا الحظ بأن غادروا المكان وتخلصوا من لعنته التي مازالت تطارد البقية..
وأنا بعيدة عن حيي" سيدي يوسف بن علي "، أذكر اسمه بفخر كلما سألني أحدهم عن المكان الذي أقطن به في مراكش، ألمح في عيونهم نظرات الازدراء والتعجب الصامت من جرأتي على الافتخار بذلك الاسم.. أبتسم في قرارة نفسي، فهم لن يفهموا أبدا احساس "المغضوب عليهم"..
..
..
ملحوظة: الصورة أعلاه مأخوذة من المظاهرات التي قام بها سكان " سيدي يوسف بن علي "  في دجنبر 2012 احتجاجا على ارتفاع أثمنة الماء والكهرباء.. ومازال الحي مغضوبا عليه، من أصحابه.. والآخرين..