لن أتكلم في السياسة
أكره السياسة ولا أستسيغها فهي تشعرني بالغثيان وحكة الأسنان.. أجدها لعبة قذرة تلوث كل من يقترب منها...
- في ذلك اليوم الدافئ، قالوا لنا أن أمريكا احتلت العراق.. كنا حينها نجهز أنفسنا لامتحان في مادة الترجمة، لكن قلوبنا كانت معلقة في بغداد. سارع بعض الطلاب لجمع الناس من أجل مظاهرة، دخلوا أقسام الثانوية عنوة وطلبوا منا الحراك من أجل اخواننا الذين يقتلون هناك في بلاد الرافدين، وتحركنا..
كانت تلك أول مرة أشارك فيها في مظاهرة وأصرخ من أعماق قلبي من أجل العراق، لم أبالي حينها بمظهري وأنا محمولة فوق أكتاف شباب يدرسون معي، وعيون أساتذتنا تقتنص كل الحركات التي نقوم بها داخل حرم الثانوية التي لم يوقفنا سورها.. كان صراخنا أقوى من أن يبقى محاصرا في مكان واحد، وكانت آهاتنا تستحق أن تعانق آهات الثانوية المجاورة لنا.. حطمنا الباب واجتزنا الحاجز الأمني، وحطمنا بعده بابا آخر لنخرج تلاميذا مثلنا ونصرخ معا متوجهين لشارع تجتمع فيه كل المدارس.. حينذاك بدأت هراوات رجال الأمن تنزل علينا، وبدأنا نجري كالقطط الهاربة ونقتحم بيوتا ليست لنا. امرأة طيبة سارعت بإخالنا بيتها وسقتنا ماءً قبل أن نغادر وعيوننا ترصد بحزن كل أصحابنا الذين تم سجنهم..
ذاكرتي مازالت تذكر تفاصيل كل ما حدث، وما وقع بعده أيضا.. ما صرخنا من أجله ذاب مع شباب استغل الفرصة كي يهرب من جحيم الدراسة، فصاروا يصرخون بهتافات ويجمعون الناس من أجل المظاهرات كلما كانوا على أعتاب امتحان جديد.. ميعوا القضية حتى كرهناها.. ظلت أمريكا تقتل العراقيين.. ونسينا الأمر بعدها..
قررت حينها ألا أؤمن بالسياسة..
- وفي ذلك اليوم أردنا تغيير مسارنا بأنفسنا، فانتفضنا ضد أوضاعنا البئيسة في الكلية، خضت التحدي مع القلائل ضد زملاء كانوا يرمقوننا بالسخرية، وآخرين يستغبون فعلنا هذا، وضد نظام قيدنا وظلمنا... كنا نعلم أن سنوات قليلة فقط تفصلنا عن مغادرة الكلية، لكننا سعينا للتغيير من أجل الطلبة الجدد وتحسين حالتهم للأفضل. كانوا ينظرون لنا باستغراب وهم يستقبلون سنواتهم الأولى ببذلة بيضاء اعتقدوا أنها تميزهم عن الآخرين وتفتح لهم أبواب العدل والتفرد. قاطعنا التداريب والدروس فعوقبنا بالرسوب والقمع والسب، انتفض الكبار في اليوم الأول مدافعين عنا، لكن مع أول نفس كانوا أول من كسرنا.. وحطمنا.. هكذا هي لعبة الحياة، لا مكان للصغير فيها..
كانت مكاسبنا قليلة جدا، لكننا سعدنا بها وتوقعنا الأفضل في القادم من الوقت.. وككل عاقل تحملنا مسؤولية قرارنا بالاضراب فنلنا العقاب والتزمنا بالرسوب والانتظار.. وصبرنا حتى ذلك اليوم الذي فقدنا فيه الاتصال بمن كانوا يمثلوننا.. هم سكتوا بدون سبب، ونحن لم نعرف أسبابا تجعلنا نستمر.. ذابت الرؤوس التي رفعت يوما، وتخلى عن القضية كل من كان يملك حقا. سمعنا أنهم باعوا ما استطاعوا بعد أن وقعوا الطاعة لغرض في نفوسهم، أما نحن فصمتنا كان مقدرا حينما جعلناهم يوما قدوة تمثلنا..
ومرة أخرى فقدت الأمل في التغيير وقررت ألا أتكلم في السياسة..
وفي ذلك الوقت، رسمت خطوات مستقبلي وقررت أن أفعل وأفعل وأفعل.. لم أحسب أبدا أن مصيري بين يدي أشخاص يقولون ويقولون ويفعلون عكس ما يقولون..
قالوا لنا "قسموا أحلامكم الطبية بتفاصيل بعيدة عنا، فلا مجال لفتح باب التخصص في وجوهكم الشابة، اكتفوا بالموجود أو ابحثوا عن المال بأسرع الطرق.. وسنساعدكم.." يومها كنت أتمنى دراسة طب الأطفال والرحيل لأقصى جبال المغرب المنسي معهم هناك.. لكن وزرائنا الكرام قالوا ألا أموال في الحقيبة للتكوين المستمر، وأن المساعدات فقط لمن سيفتحون عياداتهم ببيع أحلامهم وشراء ثروتهم..
لم نسكت أيضا، وبدأ النضال بأفكار كانت تجمع القلائل فقط ممن حلموا وعزموا وصمموا على الكلام.. كثرت الاشاعات ولم يلم الشمل الذي شتت قبل سنوات. وبعد حروب البيانات و بين الفينة والأخرى رمى ذكور المسؤولية لقمات تهافت عليها الجائعون وتمسك الغريق بقشة قد تقسم كل الأحلام.. تشتت ما اجتمع من الناس وجرى كل نحو مصلحته بعد أن تيقنوا أنه ما استمر على أمل كل من عاش آمال الجماعة.. وأنا أيضا سلكت الطريق السهل بعد أن جعلونا بلا خيار.. فاخترت أن يكون لي القرار باتباع ما يقولون عن رضا.. قبل أن أجبر عليه بالغصب..
صمتت أيضا متيقنة أني لن أتكلم مجددا في السياسة، لأنها لعبة أكبر مني ومن جماعتي الذين رأوا أن الحق لا يكتسب الا بعد النضال من أجله، وبأن الأمل في التغيير ممكن إذا ما عزمنا عليه بقلوبنا وتحملنا مع كل مسؤولياتنا..
لكن السياسة اللعينة رفضت أبدا أن تفارقني، وبدأت الأحزاب تستقطبني وصرت أنظر بعين مخالفة لما كنت أخشاه وأتجنبه سابقا:
أترانا جميعا نلعب السياسة ونحن لا ندري.. نتكلم فيها ونحن ندري..
نتنشقها.. نعيش بها.. ونتحداها.. ونحن لا ندري..
ومن يدري.. ربما في يوم من الأيام سأصبر على الغثيان وأتأقلم مع حكة الأسنان.. مادام الجميع صابر ومتأقلم.. وتستمر الحياة.. وتستمر السياسة..
مصدر الصورة
- في ذلك اليوم الدافئ، قالوا لنا أن أمريكا احتلت العراق.. كنا حينها نجهز أنفسنا لامتحان في مادة الترجمة، لكن قلوبنا كانت معلقة في بغداد. سارع بعض الطلاب لجمع الناس من أجل مظاهرة، دخلوا أقسام الثانوية عنوة وطلبوا منا الحراك من أجل اخواننا الذين يقتلون هناك في بلاد الرافدين، وتحركنا..
كانت تلك أول مرة أشارك فيها في مظاهرة وأصرخ من أعماق قلبي من أجل العراق، لم أبالي حينها بمظهري وأنا محمولة فوق أكتاف شباب يدرسون معي، وعيون أساتذتنا تقتنص كل الحركات التي نقوم بها داخل حرم الثانوية التي لم يوقفنا سورها.. كان صراخنا أقوى من أن يبقى محاصرا في مكان واحد، وكانت آهاتنا تستحق أن تعانق آهات الثانوية المجاورة لنا.. حطمنا الباب واجتزنا الحاجز الأمني، وحطمنا بعده بابا آخر لنخرج تلاميذا مثلنا ونصرخ معا متوجهين لشارع تجتمع فيه كل المدارس.. حينذاك بدأت هراوات رجال الأمن تنزل علينا، وبدأنا نجري كالقطط الهاربة ونقتحم بيوتا ليست لنا. امرأة طيبة سارعت بإخالنا بيتها وسقتنا ماءً قبل أن نغادر وعيوننا ترصد بحزن كل أصحابنا الذين تم سجنهم..
ذاكرتي مازالت تذكر تفاصيل كل ما حدث، وما وقع بعده أيضا.. ما صرخنا من أجله ذاب مع شباب استغل الفرصة كي يهرب من جحيم الدراسة، فصاروا يصرخون بهتافات ويجمعون الناس من أجل المظاهرات كلما كانوا على أعتاب امتحان جديد.. ميعوا القضية حتى كرهناها.. ظلت أمريكا تقتل العراقيين.. ونسينا الأمر بعدها..
قررت حينها ألا أؤمن بالسياسة..
- وفي ذلك اليوم أردنا تغيير مسارنا بأنفسنا، فانتفضنا ضد أوضاعنا البئيسة في الكلية، خضت التحدي مع القلائل ضد زملاء كانوا يرمقوننا بالسخرية، وآخرين يستغبون فعلنا هذا، وضد نظام قيدنا وظلمنا... كنا نعلم أن سنوات قليلة فقط تفصلنا عن مغادرة الكلية، لكننا سعينا للتغيير من أجل الطلبة الجدد وتحسين حالتهم للأفضل. كانوا ينظرون لنا باستغراب وهم يستقبلون سنواتهم الأولى ببذلة بيضاء اعتقدوا أنها تميزهم عن الآخرين وتفتح لهم أبواب العدل والتفرد. قاطعنا التداريب والدروس فعوقبنا بالرسوب والقمع والسب، انتفض الكبار في اليوم الأول مدافعين عنا، لكن مع أول نفس كانوا أول من كسرنا.. وحطمنا.. هكذا هي لعبة الحياة، لا مكان للصغير فيها..
كانت مكاسبنا قليلة جدا، لكننا سعدنا بها وتوقعنا الأفضل في القادم من الوقت.. وككل عاقل تحملنا مسؤولية قرارنا بالاضراب فنلنا العقاب والتزمنا بالرسوب والانتظار.. وصبرنا حتى ذلك اليوم الذي فقدنا فيه الاتصال بمن كانوا يمثلوننا.. هم سكتوا بدون سبب، ونحن لم نعرف أسبابا تجعلنا نستمر.. ذابت الرؤوس التي رفعت يوما، وتخلى عن القضية كل من كان يملك حقا. سمعنا أنهم باعوا ما استطاعوا بعد أن وقعوا الطاعة لغرض في نفوسهم، أما نحن فصمتنا كان مقدرا حينما جعلناهم يوما قدوة تمثلنا..
ومرة أخرى فقدت الأمل في التغيير وقررت ألا أتكلم في السياسة..
وفي ذلك الوقت، رسمت خطوات مستقبلي وقررت أن أفعل وأفعل وأفعل.. لم أحسب أبدا أن مصيري بين يدي أشخاص يقولون ويقولون ويفعلون عكس ما يقولون..
قالوا لنا "قسموا أحلامكم الطبية بتفاصيل بعيدة عنا، فلا مجال لفتح باب التخصص في وجوهكم الشابة، اكتفوا بالموجود أو ابحثوا عن المال بأسرع الطرق.. وسنساعدكم.." يومها كنت أتمنى دراسة طب الأطفال والرحيل لأقصى جبال المغرب المنسي معهم هناك.. لكن وزرائنا الكرام قالوا ألا أموال في الحقيبة للتكوين المستمر، وأن المساعدات فقط لمن سيفتحون عياداتهم ببيع أحلامهم وشراء ثروتهم..
لم نسكت أيضا، وبدأ النضال بأفكار كانت تجمع القلائل فقط ممن حلموا وعزموا وصمموا على الكلام.. كثرت الاشاعات ولم يلم الشمل الذي شتت قبل سنوات. وبعد حروب البيانات و بين الفينة والأخرى رمى ذكور المسؤولية لقمات تهافت عليها الجائعون وتمسك الغريق بقشة قد تقسم كل الأحلام.. تشتت ما اجتمع من الناس وجرى كل نحو مصلحته بعد أن تيقنوا أنه ما استمر على أمل كل من عاش آمال الجماعة.. وأنا أيضا سلكت الطريق السهل بعد أن جعلونا بلا خيار.. فاخترت أن يكون لي القرار باتباع ما يقولون عن رضا.. قبل أن أجبر عليه بالغصب..
صمتت أيضا متيقنة أني لن أتكلم مجددا في السياسة، لأنها لعبة أكبر مني ومن جماعتي الذين رأوا أن الحق لا يكتسب الا بعد النضال من أجله، وبأن الأمل في التغيير ممكن إذا ما عزمنا عليه بقلوبنا وتحملنا مع كل مسؤولياتنا..
لكن السياسة اللعينة رفضت أبدا أن تفارقني، وبدأت الأحزاب تستقطبني وصرت أنظر بعين مخالفة لما كنت أخشاه وأتجنبه سابقا:
أترانا جميعا نلعب السياسة ونحن لا ندري.. نتكلم فيها ونحن ندري..
نتنشقها.. نعيش بها.. ونتحداها.. ونحن لا ندري..
ومن يدري.. ربما في يوم من الأيام سأصبر على الغثيان وأتأقلم مع حكة الأسنان.. مادام الجميع صابر ومتأقلم.. وتستمر الحياة.. وتستمر السياسة..
سناء..
وجدت نفسي بنين سطورك..
ظلي كما أنت.. فأنت الأفضل
رائعة
ان لم تمارس السياسة تمارس عليك ...
كما يوقولون السياسة للساسة
مقال جميل