أتذكر الموت.. فهل تفعلون؟

في تلك اللحظة، بدأت أتذكر الموت بكل التفاصيل التي عشتها. وجدت نفسي هائمة في ذكريات عن أشخاص عايشتهم وحضرت معهم لحظاتهم الأخيرة وهم يودعون هاته الحياة الفانية ويسلمون الروح لباريها.
ربما سأتحدث عن بعض مرضاي الذين ماتوا...
 أتذكرهم جميعهم.. بأسمائهم.. بأمراضهم.. بابتساماتهم.. بآهاتهم...
وربما سأصمت للأبد..
لماذا الآن بالضبط؟؟
 لا أعرف...
فقط، أتذكر الموت.. فهل تفعلون؟

ومات الحاج
قصة واقعية من خيالي.. وخيالية من واقعي..

في ذلك اليوم تزامنت أول تداريبي في قسم الجراحة مع أولى المناوبات في مستعجلات المستشفى الجامعي. صدمت كثيرا من هول الأعداد الكبيرة من المرضى الذين كلفت باستقبالهم ومعالجة بعض مشاكلهم وأنا التي اعتقدت أن نهاري سيكون للملاحظة فقط. اكتظ المكان أمامي بملامح مختلفة: راكبو دراجات أتوا يحملون جراحا وعظاما مهشمة نتيجة حوادث سير ارتكبوها.. طفل صغير عضه حمار الدار... شاب في مقتبل العمر قطعت آلة فرم اللحم يده اليمنى.. وامرأة كسرت فخدها بعد سقوطها من الدرج.. واخرون..
كانت مهمتنا نحن الطلبة الأطباء الجدد تقتصر أساسا على المساعدة في التنظيم واستقبال المرضى واجراء معاينة أولية لحالتهم  قبل تقديمهم للأطباء المتخصصين الجراحين.. هؤلاء الذين كانوا يداومون في غرفة العمليات أيضا بعد أن اكتظت بحالات مستعجلة كانت تنتظر دورها لتلقي العلاج.

كان عدد الأطباء قليل جدا، طبيبان جراحان فقط يعملان منذ أكثر من 50 ساعة في مناوبة مرهقة، لضمان سيرورة مستعجلات تستقبل يوميا مئات الحالات. لذا كان يسعدنا أن نساعدهم في العمل ونساعد أنفسنا بالتعلم، مما جعل أولى مناوباتنا لا تقتصر فقط على الأهداف التي سجلوها لنا، بل شرعنا بمساعدة مرضى الكسور البسيطة بصنع جبائر قد تصلح ما أفسده عمل "الجبار" الذي جعل مرضانا يعانون عاهة شبه مستديمة.

في ذلك اليوم، قدم ثلاثة شبان يحملون والدهم العجوز.. أتذكر تماما تلك اللحظة، كانت الساعة تشير للسابعة بتوقيت المستشفى البارد، وكان الكل يستعد لتغيير المناوبة بعد أن خفت حركة المستعجلات، ولم يبق في المكان إلا بضع حالات بسيطة تكلف بها أحد الأطباء بينما سرق الثاني نصف ساعة ليتناول طعام غدائه ويريح جسده الذي لم يذق النوم منذ أزيد من يومين..

كان الوالد العجوز رجلا في السبعينات من عمره، غلبه السكري وأنهك جسده الضعيف، فربى غنغرينا ذميمة في ساقه اليمنى. جاء رفقة أبنائه الذين اقتنعوا مسبقا وأقنعوه ألا مفر من قطع رجله. كانوا يبتسمون بهدوء وهم يوقعون ورقة الموافقة على وداع والدهم. جددوا ثقتهم في الطبيب الجراح وطبيب الانعاش معلنين أنهم يعرفون مسبقا أن عملية البتر بسيطة وتتم بكل سلالة، وبأن أباهم مستعد نفسيا وجسديا لدخول غرفة العمليات.
كنت تعبة وسعيدة، فقد كانت تلك أول عملية سأحضرها ولم أعتقد أن ذكراها ستبقى مرسومة في ذهني للأبد..

عند السابعة والنصف، وجد الطبيب صعوبة في اقناع الممرضة المسؤولة بتزويده بكل مستلزمات العملية، فقد كانت جد مستعجلة تحاول اقتناص بعض الدقائق قبل خروجها من أجل الالتحاق بعملها الاضافي في أحد المستشفيات الخاصة. وبعد أخذ ورد، تمكننا من الحصول على كل ما نحتاجه ( أو اعتقدنا ذلك..) بعد أن وعد الطبيب الممرضة أنه سيغطي غيابها في النصف ساعة المتبقية في توقيت عملها الرسمي.
بدأت العملية بسلاسة، كان الطبيب يعمل بهدوء تام وتأن مراعاة لحالة الحاج العجوز. كل شيء كان على ما يرام حتى بدأت سيول من الدم تنزف من المريض. حاول الطبيب السيطرة على الأمر لكنه لم يستطع، فحاول البحث عن سبب النزيف، ليكتشف أن المشكل يعود لجهاز وجده معطلا بشكل غير واضح. طلب مني أن أتصل بالممرضة لتغير الجهاز، فأخبرتني بالحرف أنها  قد وضعت الجهاز للتصليح لكنهم لم يفعلوا، ولا يوجد جهاز اخر.. كما أنها قد غادرت المستشفى ولن تعود من أجل البحث عن بديل لإيقاف النزيف.
لم يكن أمام الجراح سوى الاسراع في إنهاء العملية، طلبنا مساعدة الطبيب الآخر فحضر مسرعا وشرع في مساعدة صديقه.. أما أنا فقد كنت مذهولة من تسارع الأحداث فجأة، مصدومة مما قد ينتظرنا بعد ذلك..مكبلة اليدين، لا أعرف ما العمل..

ما انفكت المشاكل تواجهنا، فلم تتبق خيوط الجراحة، كلفوني باحضارها ولكن الممرضة غائبة. تذكرت أن هناك مسؤول آخر في قسم المستعجلات، لكنه رفض تزويدي بها، بحجة أنها خاصة بقسم اخر ولا بد من إذن رئيس الممرضين حتى أحصل عليها. توسلت اليه فحياة أحدهم في خطر لكن دون جدوى.. عدت خائبة بحثا عن رئيس الممرضين لكنه كان غير موجود لسبب لم أعرفه..
حاولت الرجوع عند المسؤول الأول لاستجدائه مرة أخرى، لكني لم أجده هو الآخر. كدت أبكي وأنا أرى بين عيني صورة الحاج الشاحب الذي يصارع الموت وصورة الطبيبين ينتظران خيوط الجراحة لانقاذه. لمحت فجأة بعض العلب في الغرفة، فابتسمت ومددت يدي لسرقتها.. خرجت هاربة  وأنا أسمع صرخات المسؤول يناديني: يا..... تعالي... يا سارقة...
لم أبال حينها بأن يراني هو أو يسمعه الاخرون، فيلوموني على فعلي.. كل ما همني هو الوصول لغرفة العمليات، حينها لن تكون هناك سلطة للمسؤولين علي، فقط هي سلطة الطبيبين اللذين أمراني باحضار خيوط الجراحة كانت تحركني.. كانت تلك أول سرقة طبية أقوم بها في المستشفى.. ولم تكن الأخيرة..

جريت بسرعة إلى غرفة العمليات، كان الطبيبان يحاولان جاهدين إنقاذ ما يمكن إنقاذه فقد غاب مريضنا عن الوعي بعد أن فقد دماء كثيرة.. أكياس أخرى تمر عبر عروقه لكن دون جدوى.. توقف قلبه فجأة فحاول طبيب الانعاش جاهدا مساعدته على التشبت أكثر بالحياة. كان يبذل جهدا مضاعفا لكي ينقذه، أجرى له تدليك القلب عشرات المرات قبل أن يتصل برئيسة كي يخبره بالأمر. وعبر الهاتف سمعناه يأمره بإيقاف الانعاش الاصطناعي، بعد ثلاث محاولات في حالة عدم وجود نتيجة. ورغم أن الطبيب كان يعلم أن أوامر رئيسه يجب أن تنفذ، لكنه لم يتقبل الأمر، رفض أن يوقف ما يفعله لأنه قد وعد أبناء الحاج بأن يروا والدهم سليما معافى.. لكن قدر الله كان أكبر من وعد الطبيب وعمله.. أكبر مما توقعناه جميعا.

في ذلك اليوم، رأيتهم جميعا واقفين عاجزين عن الكلام. الكل كان يحاول أن يجمع الصورة ليجد بعدها كلمات يقولها لأهل الحاج المتوفى. لم يستوعب أبناؤه ما حصل، وهم كانوا على ثقة بأن العملية الجراحية بسيطة جدا. ولم يستوعب الأطباء ما حصل أيضا، وهم الذين قطعوا وعدا بأن ينقذوا روحا لم يعتقدوا للحظة أنهم سيفقدونها.

في ذلك اليوم، رأيت انسانا مستهترا علم عن عطل أحد الأجهزة ولم يبلغ بالأمر بسبب إسراعه لجني ثمار عمله الآخر في مكان آخر. وإنسان آخر رفض إنقاذ حياة شخص قبل تقديم ورقة إدارية، وإنسان ثالث مسؤول غاب عن مكان مسؤوليته بدون عذر.. 

في ذلك اليوم، رأيت أشخاصا تعبوا من العمل ساعات طويلة جدا أكثر مما يتحملون، ومعهم رئيس اعتقدت أن حياة الناس عنده لا تساوي إلا دقائق محاولة تنتهي بانتهاء مكالمة هاتفية.

في ذلك اليوم، أصابني الذهول مما وقع، فقد كانت الأحداث أسرع من أن أتقبلها وأفهمها..

في ذلك اليوم، وجدت جثته في ممر المستعجلات تنتظر حملها للغرفة الباردة، تركوها هناك بعد أن أخبروا أبناءه بوفاته. نظرت إليه بألم وأغمضت عينيه طالبة منه مسامحتي على ما فعلت وما لم أفعل. جعلته في عيني صورة تذكرني بالعالم الذي دخلته وبالأرواح التي سأفقدها..
..
تغيرت أشياء عديدة في حياتي.. وكل المفاهيم التي عايشتها في ذلك المكان اختلفت. حتى الصورة صارت واضحة أكثر فقط.. بعد ذلك اليوم.
..

هوامش:
- الحاج رحمه الله كان ثاني مرضاي الذين سرقتهم الموت.. أولهم سيدة أحتفظ بذكراها معي..أنا فقط.
- الأحداث والأقسام والمستشفى المذكور في القصة عناوين مجهولة.. أما الأشخاص فليس لهم أسماء.. أي ربط لهم مع واقعي هو غير مقبول..
- حكاية الحاج غير متاحة للنقاش، كتبتها.. وكفى

15 تعليق على "أتذكر الموت.. فهل تفعلون؟"

  1. said يقول :

    الموت مكتوب علينا كاملين و كل واحد والسبب ديالو باش غادي يموت الحاج كتب عليه الله يموت بديك الطريقة هذا مكان أختي سناء شكرا على التدوينة شعرت بإحساس غلايد عن قراءتي لها

    غير معرف يقول :

    in the memory of each student of medicine there are faces .. names .. stories .. i envy you dear friend for being able to talk them out .. sometimes its too painful to tell ..
    i wont advice you to go on with this but if u feel a releif .. do it
    fatin

    أمال يقول :

    تعددت الاسباب والموت واحد
    عالم كئيب مليئ بالمعاناة والالم والموت أيضا.. كان الله في عونك

    B.N.A يقول :

    تسارعت صور و حوارات و ذكريات داخلي و أنا أقرأ كلماتك
    كلمات خطتها يد الصدق و الرحمة

    دمت لي أختا ,أما ,مثلا أعلى
    إشتقت لك

    سناء يقول :

    بين الواقع والخيال تكمن الحقيقة

    مررت من هنا..

    بندر يقول :

    لا حول ولا قوة الا بالله،،،،

    sarah يقول :

    كان الله في عونك

    شكرا لك وبارك الله فيك

    انتيكات يقول :

    الف شكر ع الموضوع الرائع

    رائحة الموت المخيف جدا بين أجنحة المستشفيات المغربية!

    Sirine يقول :

    مبكي ! :'( :'( :'(

    Hiba يقول :

    شكرا لك وبارك الله فيك

    kora today يقول :

    كل نفس ذائقة الموت

    ismail يقول :

    مساء النور


    الذي شغلني بعد قراءة هذه السطور هو
    هل أجواء مثل هذه ممكن تصيب الانسان بتبلد المشاعر ؟ حتى لا أقول زوال الانسانية
    الجواب أكيد ليس قطعيا
    لكن المؤكد أن الخلل المنتشر في المجتمع لا يمكن ألا يجد له طريق الى داخل المستشفيات

    سلام

    ane semprul يقول :

    I really love this post I will visit again to read your post in a very short time and I hope you will make more posts like this.
    cara menggugurkan kandungan
    obat telat datang bulan
    obat penggugurkan kandungan

إرسال تعليق

مرحبا بكلماتكم الطيبة