إعلان وفاة




غادرتُ غرفة "الداخل المفقود" بوجه مصفر وعينين ذابلتين، فلأول مرة سوف أوضع في موقف لا يحسدني عليه أحد. نظرات أصدقائي المختلفة مازلت أذكرها، فمنهم من رمقني بتأسف وحزن ، ومنهم من شعر بفضول ليرى كيف سأتصرف، ومنهم من تمنى لو عاش التجربة التي سأخوضها. وتمنيتُ مع هؤلاء لو أنهم كانوا مكاني في هذا الوقت الذي ترجّيتُ فيه أن تنشق هاته الأرض الباردة وتقتلعني.

سرتُ في الممر نحو غرفة الانتظار ، وإحساس بأن الجميع ينظرون إليَّ زاد من توتري ، حاولتُ تفادي هذا الشعور فبدأت أقرأ آيات قرآنية نسيتها في هاته اللحظات، فقلبي كان ينبض بسرعة ويدي ترتجفان وذهني لا يفكر إلا بوجه تلك الفتاة : كيف سيكون بعد أن أخبرها بأننا قد فقدنا والدتها . كيف سأعْلِمُها بأن آخر من تبقى من أسرتها قد اختار الرحيل لملاقاة وجه ربه ، وأنا من كنت دوما أزرع الأمل في قلبها الذابل وأخبرها بأن والدتها سوف تعود عما قريب إلى المنزل معافاة وبصحة جيدة.

آه لم أقتنع أبدا بالأسباب التي جعلت أستاذي يوكل إلي هاته المهمة الصعبة ، في وقت كان إعلان الوفاة فيه من مهامه الخاصة. لكنه أمرني هاته المرة أن أتكلف بالأمر كي أتحمل مسؤوليتي ، فبعد أن زرعتُ أملا كاذبا في قلب ابنة المرحومة، فإني الوحيدة التي يجب عليها أن تقول لها الحقيقة وأن تواجه ردة فعلها.

ممر طويل صادفني، تمنيت لو أن الأمر انتهى  في غمضة عين ، لكن هيهات . اشتدت سرعة ضربات قلبي باقترابي من باب غرفة الانتظار ، توقفت قليلا، مسحت دمعتي ، استجمعت أنفاسي ، وزفرت بقوة أفرغت معها كل شعور بالخوف من قلبي.

وقفتُ أمامها ،كم هو حزين هذا الوجه الذابل الذي مُسِحت ملامحه من شدة البكاء طيلة شهر كامل..نظرت إليَّ تستفسر عن الجديد بعد أن أفزعها إسراعنا بوالدتها لغرفة الإنعاش.
- البركة فراسك أختي.. إرادة الله كانت أقوى

ولم أدرِ بعدها ما حصل، ولا كيف تصرفت الفتاة، حتى وجدتُ نفسي في غرفة الطلاب  ، وزملائي يحيطون بي  بوجه مبتسم يخبرني أني فقدتُ وعيي وأنا أعلن خبر الوفاة  ، وبأن الفتاة  ما زالت في انتظار استيقاظي لتودعني مع جثة أمها وتشكرني على كل ما قدمته لها من مساعدة طيلة هاته المدة.

مقتطف من مجموعة مذكرات طبيب

21 تعليق على "إعلان وفاة"

  1. إن كانت القصة حقيقية، فرحم الله تلك المرأة و رزق بنتها الصبر و السلوان

    فعلا، موقف مرعب يجتاج شجاعة كبيرة كي يتم في أحسن أحواله.. لا حول و لا قوة إلا بالله

    قصة مؤثرة فعلا ومحزنة
    ابتعدت دوما عن عالم الطب والمستشفيات لمثل هذه المشاهد
    رحمة من الله على موتانا من المسلمين

    هشام يقول :

    محزن جداً. هل هي من محض الخيال أم قصة حقيقية؟

    نجاة يقول :

    جميلة،
    ثم إنه ليس أملًا كاذبًا
    وإنها بكت مسبقًا ما يكفي لتقف بقوة عند الجدّ

    لا أدري، لماذا تهزنا النسمات، ونقف بقوّة عند العواصف!
    يا للنساء!

    القصة مؤثرة عشنا مع بطلتها التوتر الذي عاشته
    تعرفين ان مهنة الطب بدايتها تكون دوما بهذا الشكل التعاطف مع كل حالة الاحساس برهبة الموت لكن بطول الممارسة وتعدد الحالات تهدأ المشاعر ويحصل نوع من التعود يعني بطلة القصة بعد سنوات اخرى من الخدمة اكيد لن يغمى عليها وهي تعلن حالة وفاة
    دمت بكل الود عزيزتي

    فعلا هو موقف صعب أن تخبر أحدا أن أقرب الناس إليه قد مات..
    ولكن الغريب في القصة أنك أنت من أغمي عليك في النهاية، هذا يدل على حجم المهمة التي كنت تحمليها على عاتقك، والخوف من ردة الفعل التي ستكون من صديقتك جعلك تفقدين وعيك.

    على العموم القصة يبدو عليها واقعة حقيقية، فرحم الله والدتها وغفر لنا ولها.

    simo boura يقول :

    انها من التجارب القاسية حقا في الحياة
    في مهنة الطب امور تصبح من العادة...يصبح عاديا جدا صياح ولود او عويل مجروح....لكن الموت يبقى له نفس التاثير و لا يتغير لانه ببساطة امر رباني صرف..
    رحم الله موتانا و ادخلهم جناته و الحقنا بهم مسلمين ان شاء الله
    كنت هنا

    إعلان الوفاة ...
    موقف صعب و قاسي من دون شك، خصوصا أنها كانت بالنسبة لك أول مرة ..
    الأصعب في قصتك كونك أنت من منحت الأم لابنة المتوفاة، و أنت من عليك إعلان الوفاة لها ..
    تصوير دقيق و رائع للأحداث و الأحاسيس
    رائعة كعادتك سناء

    (هيبو) يقول :

    المكتاب ما منّو هروب

    عملك يستوجبك شجاعة .. فكوني !!

    saad يقول :

    صدقيني ليت أبي وجد من مثلك لحظتها فعلى الأقل كنت تهتمين لمريضتك , أما نحن فعانينا إهمال الأطباء.
    رحم الله الفقيدة ورزق ابنتها الصبر, وفعلا موقف لا تحسدين عليه.
    وأعجبني أنه أغمي عليك دليل عى تأثرك بما جرى للفتاة وأمها فبارك الله فيك أيتها الصالحة.

    ومثل هذا المواقف هي من يصقل خبراتنا في الحياة والقدرة على مواجهة المواقف المختلفة ، وإن كان موقف لايحسد عليه إلا أنه عبر عن اختلاجاتك النفسية الشفافة ، وكل عام وأنت والأسرة الكريمة بخير وسلامة .

    مغربية يقول :

    @@ نسيم الفجر
    :) امين يا نسيم
    ولا حول ولا قوة الا بالله

    @@ امال الصالحي
    استطعت الابتعاد عن الطب والمستشفيات لكن كثرا لا يستطيعون :)
    للأسف

    @@ هشام
    حقيقية :)
    أول مريضة في أول ستاج

    مغربية يقول :

    @@ نجاة
    النساء غريبات جدا :)
    هكذا هن صامدات عاجزات :)

    @@ خواطر شابة
    كوني على يقين، أنها كانت أول مرة يغمى فيها على بطلة القصة بعد اعلان الوفاة...
    فذلك كان اعلان الوفاة الوحيد الذي كلفت به، لحد الان فقط

    @@ أبو حسام الدين
    رحمها الله :):)
    فالقصة واقعية نعم

    مغربية يقول :

    @@ سيمو بورا
    العديد من الأشياء تصبح عادية بعد تكرارها :)
    حتى الوفاة تصبح عادية اذا ما تكررت

    @@ عبد الحميد
    احساسان متناقضان وصعبان كثيرا
    تعطي الأمل ثم تسلبه فجأة

    @@ هيبو
    أوكي هيبو
    هي الأولى

    مغربية يقول :

    @@ سعد الدين
    رحم الله الوالد وأسكنه فسيح جنانه يا رب امين

    @@ تركي الغامدي
    عيد مبارك سعيد أخي الكريم تركي

    قوس قزح يقول :

    موقف فعلا لا يحسدك احد عليه
    فعلا المواقف الانسانيه تلك تحتاج الى قلب بارد
    .
    أسفت كثراً و تأثرت

    لك تحياتى

    Amwaj يقول :

    لا حول ولا قوة إلا بالله :(

    موقف مؤثر ينبغي ن ييوضع فيه ذا قلب قوي كي يقوم بالمهمة على أكمل وجه.
    الله يصبرك
    تقبلي مروري

    موقف مؤثر ينبغي ن ييوضع فيه ذا قلب قوي كي يقوم بالمهمة على أكمل وجه.
    الله يصبرك
    تقبلي مروري

    أسلوب رائع
    بالرغم من ان القصة درامية إلا انني رسمت على شفتي إبتسامة خفيفة بعدما قرأت ان الطالبة أغمي عليها, وهذا دليل على رقة قلبها.

    سلامي

    جميلة جدا رغم الحزن ... قوتك في السرد جعلتني احزن ثم ابتسم في بضع دقائق ..
    تحياتي لك

إرسال تعليق

مرحبا بكلماتكم الطيبة