بائعة الهوى ميري


قبل ثلاث سنوات، كتبتُ عن ميري.. لم أعرف أبدا لماذا سكنتني قصتها في تلك الفترة، رغم أن خيالي الأحمر هو من كتبها. واليوم، على صفحات مدونتي، وبعد أن ذكرني أحد الطيبين بها، أحببت أن أشارك كل من لم يعرفها: حكاية بائعة الهوى ميري.


شخصيات القصة من وحي خيالي, وأي تشابه في الاحداث هو من قبيل الصدفة

وقفت كما عادتها منذ سبعة أشهر مضت، عند ملتقى الطرق المعروف، خلعت غطاءها لتنسدل منه أهداب شعر أسود، سواد السماء في ليلة رائعة. فتحت زري قميصها العلويين مفسحة المجال لجسم ممتلئ جذاب، أرادت أن تظهره للمارة. سيجارتها بين يديها ووقفتها المعتادة تجعل عشرات الزبائن يرغبون بقضاء ليلة معها.
اقتربت الطريدة رويدا...شاب وسيم في مقتبل العمر، بسيارته السوداء المدهشة، التي أظهرت لها معالم الثراء والغباء على وجهه. أوقف عربته أمامها وصعدت حاملة معها ابتسامة خفيفة، تلتها ضحكة مدوية أدهشت المارة وأثارت غيض رفيقاتها اللواتي وقفن لوقت أطول في مكانها ولم يحالفهن الحظ في العثور على زبون غني مثلما حالفها.
كلمات قليلة دارت بينهما، سألها عن اسمها، أجابته بلين وطلاقة اكتسبتهما مع الخبرة، وأضافتهما لصوتها الحنون:"مريم ويلقبونني بميري..هههههه".
أعلمها عن وجهته وعن الثمن الذي سيمنحه لها، لكنها لم تأبه أبدا لما قاله، فلا المكان ولا الظروف ولا المقابل كانوا ذي قيمة بالنسبة لها..لأن ما ترمي إليه لم ولن يعرفه سواها.

اسم وحكاية
اسمها مريم ولقبها ميري ..عُرِفت في مجال الدعارة منذ سبعة أشهر، بعد أن اعترضت سبيل احدى العارضات وطلبت منها المساعدة من أجل لقمة عيشها بسبب طرد والدها لها. أبدت براعة كبيرة في المجال وأتقنت فنون الاغراء، فبعد مدة قليلة من التعلم استطاعت أن تجلب بذكائها وجمالها البارعين أموالا طائلة، تمكنت بعدها من رد جميل مشغلتها والابتعاد عن الجماعة من أجل احتراف العمل الفردي.
عرفت بين بنات  مجالها بعجرفتها، فنادرا ماكانت تحدث إحداهن ونادرا ماكانت إحداهن تكلمها، وكيف لا ومشاعر الغيرة تحرقهن من ميري لم يعرفوها إلا من مدة قصيرة، لكنها كانت كافية لتسلبهم شهرتهم، فتصبح بعدها الرقم واحد بين أكثر المطلوبات من بائعات الهوى

ليلة الأحلام
فتح باب منزله، وكله شوق لما ستعيشه غرفة نومه المظلمة، فما شاهده في السيارة رفقة مير، كان كافيا لإحياء غرائزه الذكورية وتنبيهه أن القادم برفقتها سيكون أحلى، على عكس باقي الفتيات اللواتي عرفهن.
توالت الضحكات ومعها قهقهات، بكؤوس شراب ثملة تمايلت بين أيديهما المتشابكة ...كانت ليلة من ليالي شهريار العظيم، حلم بها وعاشها ولم يعرف أبدا كيف سيعيش بعدها ولا ماسيجنيه بسببها.

فـراق ونــدم
ودعته بقبلة حارة أمام باب منزله، رافضة تماما أن يوصلها لمنزلها بدعوى عدم ازعاجه، بعد أن أمضى ليلة مؤرقة ومتعبة أكثر مما تصورها. أقفل الباب، فأغمضت بصوت اغلاقه عينيها لتهبط دمعات سائلة غزيرة، أبت  أن تنقطع عن التدفق كأنما وجدت منفذا تستطيع به أن تصبح حرة.
خافت أن يراها أحد تبكي، جرت مسرعة وأوقفت سيارة أجرة أعادتها لمنزلها، ولسان حالها يسأل: لماذا؟ لماذا؟
لم تعرف أبدا لماذا تفعل كل هذا؟ لماذا منذ سنة قررت أن تغير حياتها جذريا، وأن تلبس وجهين لم تكن أبدا تحلم أن تعيشهما؟ لماذا تسعى كل يوم لتدمير أشخاص لم تعرفهم ولا تريد بعد ذلك أن تعرفهم، رغم صورهم المحفورة في ذاكرتها ؟
أسئلة عديدة طرحتها باستنكار على نفسه، رغم أنها تعلم لماذا تفعل كل هذا وماستكون عواقب ما تفعله

قدر لا بد منه 
كانت كما العديد من الفتيات، شابة في مقتبل العمر، تحضِّر بحثها من أجل الحصول على الاجازة في القانون، كلها أمل أن تكمل دراستها بعد ذلك لتصبح محامية معروفة تظهر الحق وتنصر المظلوم. كانت وحيدة والدها بعد أن توفيت أمها منذ سنين عديدة، منحها الحنان والعطف والتفهم، وكانت كل شيء بالنسبة له، وأمل حياته يتلخص في رؤيتها محامية ترفع رأسه بين أصدقائه وتجعله يفتخر بابنته الوحيدة العزيزة مريم.
لكن ماحدث في ذلك الأربعاء الأسود، غير مسار حياتها.
حين اعترض سبيلها شخص لم تعرفه، اعتقدته لصا بعد نظرتها لهيئته المزرية ولمحها للجروح الكثيرة في يديه وكتفيه العارييين. أخرج سكينه، فقدمت له حقيبتها بكل ذعر. لكن ذلك الصعلوك لم يبد أي اهتمام بالحقيبة. جرح كتفه بقوة كبيرة حتى تطايرت قطرات دمه الحمراء على وجنتيها، أرادت الهروب لكنه أمسكها ووبدأ بتجريح يديها مرة ومرات، ليلوذ بعدها بالفرار.....
لم تحس بما حدث ، إلا بعد استيقاظها في المستشفى البلدي، لتجد والدها بجانبها مسرورا باستعادتها وعيها، ومخبرا إياها أن المعتدي لم يكن سوى مجنون أراد إخافتها وأن حقيبتها ما زالت سالمة ولم يمس منها أي سنتيم، ولم تكن خسائرها سوى بضعة جروح في يدها تم تضميدها.
لكن سرور الوالد لم يستمر، بعد قدوم الطبيب المعالج الذي نطق أمام مريم وأباها بكلمات محزنة لم تنسها حتى الان :
لقد وصلتنها منذ مدة أنباء عن متشرد مصاب بالايدز يقوم بجرح ضحاياه بغية نقل المرض إليهم، وللاسف كنت يا مريم احدى هؤلاء الضحايا، وتحاليلك كانت ايجابية.
لم يستطع لسان مريم التعبير عن احساسها مثلما عبرت عيناها الباكيتين، فكل شيء ضاع أمام ناظريها. مستقبلها وطموحها، آمالها ورغبات والدها، كل شيء ضاع بسبب متشرد لم تعرفه ولم يعرفها...
ولم تدر ميري كم من الايام مضت، بعد ذلك اليوم الاسود. فوالدها الحبيب لم يستطع تحمل الصدمة وتحطيم فؤاد ابنته، رقد في الفراش مدة أسبوع ليلبي بعدها نداء ربه، ويترك غاليته تواجه مستقبلا لم تظن يوما أنها ستعيشه.

وجــ براءة ــه...وجــ انتقام ــه
باعت منزلها وغادرت مدينتها. أرادت الانتقام ممن سلبوها أحلامها وكانت ترى وجه ذلك المتشرد في كل شخص تعاشره. تعودت منذ وفاة والدها على الذهاب بصفة شهرية لجمعية محاربة الايدز لتزودها بالادوية، ليس فقرا أواحتياجا لمثل هاته المساعدات، ولكن حتى لا يتم تتبع خطواتها من طرفهم، فوجه البراءة والطيبوبة التي يرونه في مريم الطالبة الطيبة التي فقدت والدها بعد مرضها، لن يشك أحد بعده أنها نفسها ميري التي قررت أن تنقل السيدا لأكبر عدد ممكن من الرجال الباحثين عن الشهوة بين أحضانها.

يوم جديد...ضحية جديدة
دقت ساعتها، ارتدت ملابسها الجذابة، ولبست بعدها معطفا رماديا غطى مفاتنها. توجهت  لمقر الجمعية، استقبلوها بحفاوة عهدتها معهم، سألوها عن أحوالها والدراسة، أخبرتهم أنها بألف خير وحدثتهم عن شعورها بالوحدة وإيمانها بقدرها. كانوا يحبونها ويثقون فيها. سلموها دواءها الشهري على أمل رؤيتها الشهر القادم بصحة أحسن، فودعتهم راكبة سيارة أجرة أوقفتها عند ملتقى الطرق المعروف. 
توقفت لبرهة، خلعت معطفها مبرزة مفاتنها الرائعة، فتحت زري قميصها العلويين، باحثة عن ضحية جديدة ....عن مصاب جديد. 


S@Na



14 تعليق على "بائعة الهوى ميري"

  1. قصة مكتوبة بأسلوب جميل ومحكية بطريقة تجعلنا نحتار هل نتعاطف مع مريم ام نهاجمها ونقف ضدها هل نقدر ظروفها ودوافعها أم نحاسبها لانها ظلمت مرة ولكنها تظلم مرات ومرات
    دمت بكل الود عزيزتي

    saad يقول :

    قصتك تحكي عن الوجه الذي لا يراه المجتمع في بائعات الهوى.
    فعلا هناك الكثير منهن من لم يريدوا أسلوب عيش بائس لكن الظروف هي من غيرت حياتهم.
    وهناك من الساقطات أيضا من لا ترى في توضيف جسمها للعامة حرجا , بل وتراه عملا بعرق الجبين ههه دام إبداعك.

    الترتيب وعنصر التشويق لمعرفة ما بعد كل كلمة هو السمة الغالبة على القصة، جميلة فعلا.
    بارك الله فيكِ.

    الآن أفهم لماذا كانوا ينظمون الحملات التوعوية دائما بالمدارس الثانوية و ينصحوننا بُكْرة و عشيا باستعمال "الواقي" بل يوزعونه بالمجان
    رغم أن الوقاية الحقيقية هي في " ولا تقربوا "

    سلامي

    قادة يقول :

    قصة جميلة ومؤثرة..

    السلام عليكم
    أختي الفاضلة / سناء
    لقد كانت طريقتك في سرد القصة رائعة...الأسلوب...و كذا العبارات التي اخترتها...
    أما عن القصة في حد ذاتها...فأنا ضد الإنتقام من المجتمع بسبب شخص...فلو أن كل فتاة فقدت بكارتها...أو اغتصبت قررت الإنتقام من المجتمع بأن ترمي بشبابه في غياهب الرذيلة لفسد الكوكب...
    لقد أعجبتني جدا قصة ميري...أقترح أن تنشري هذه القصة أختي سناء...فهي إبداع حقيقي
    بارك الله فيك...يا مبدعة 

    جميلة جدا
    قرأتها قبل ما يقرب من 3 سنوات
    أتذكرين؟؟
    و ألهمتني لكتابة خاطرة حينها
    رائع قلمك سناء
    سعدت بالتواجد هنا

    غير معرف يقول :

    TBARKALAH 3LIK A KHETI OSSLOUB RA2I3 O 9ISSA ARWA3 BON CONTINUATION .MERYEM

    مغربية يقول :

    @@ خواطر شابة
    تختلف مشاعرنا تجاه ميري ، تماما مثلما يختلف احساس ميري تجاه ما تقوم به

    @@ سعد الدين
    وجوه عديدة تخفي وراء قناع بيع الهوى لمن يهوى
    فهل من متعظ ؟

    @@ أبو حسام الدين
    أهلا بك دوما

    مغربية يقول :

    @@ مفيد
    كل ما ذكرته هو وسائل وقاية
    رغم ألا أحد منا بعيد عن الألم :)
    هي فقط مسألة قدر

    @@ قادة
    أهلا بك دوما

    @@ صاحب الشوكولاتة
    أهلا بأخي يوسف
    ميري حقا كانت ضحية ، لكنها بعد ذلك صارت جانية ، على نفسها وعلى الآخرين :)
    قصتي سبق نشرها في أحد المنتديات ، ويكفيني شرف أن يقرأها أصدقاء المدونة :) كصاحب الشكولاتة

    مغربية يقول :

    @@ عبد الحميد
    وكيف أنسى تلك الكلمات

    إلى متى سيطول مكثك هاهنا...

    بين الذئاب الجائعة؟؟

    وأنت قابعة أمامي..

    تبتسمين..

    رغمى الأسى، رغم الأنين..

    تصافحين كل من يأتي إليك ..

    و تدخلين بدربهم في صفقات مالية..

    تهبين روحك و أرضك الجرذاء..

    للجرذان كي تنهشها..

    إلى متى سطول مكثك هاهنا...

    بين الذئاب الجائعة؟؟

    تفتعلين الابتسام!!

    و تختلقين الاحتشام!

    آه فما أتعسك الآن..

    يا ليتني أقوى على انتشال نفسك..

    من وهدة الأحزان..

    يا ليتني!!

    يا ليت هذا الفيروس

    يهجر الأبدان!!

    مغربية يقول :

    @@ مريم
    شكرا لك أختي الكريمة

    غير معرف يقول :

    لا إله إلا الله ... إنا لله وإنا إليه راجعون

    لا اعلم من أين أتتها هذه القسوة التى سكنت قلبها وصارت جزءا منه.

    ليس معنى ان القدر قد أصابنا بمصيبة أن نحاول الانتقام بالمقابل من اناس ابرياء مع ادانتهم

    لما يفعلونه من فواحش وكبائر..

    صدمتنى النهاية وأذهلتنى وجعلتنى افكر فى الأمر مرارا وتكرارا....

    فهى قد اصبحت امتداد لهذا المتشرد الذى ينتقم من مرضه بنقله إلى أبرياء.

    كانت بالأول بريئة ثم انتهى بها المطاف مذنبة ومدانة.

    نسأل الله السلامة والعفو والعافية.

    تحية خالصة لكِ عزيزتى سناء لخيوط كتاباتك الذهبية التى نسجت بجراءة واقع يختفى وراء

    الوجوه البشوشة الخادعة.

    أحييكِ على ابداعك وجرأتك التى اظهرت لنا بعض من الاحداث التى يلفها الظلام والغموض.

    بارك الله فيكِ وحمانا وإياكِ من شرو البشر

    حفصة من مصر

    داود47 يقول :

    السلام عليكم
    أولا أشكرك جزيل الشكر على القصة الرائعة
    و على اسلوبك الرائع في التعبير و في سرد مجريات القصة
    و أشكرك أيضا على اختيارك لهذا الموضوع الحساس جدا خاصة في وقتنا الحالي..
    أما بعد أعرج على مجريات القصة
    كل الأمور كانت لا بأس تلك هي الوضعية الإبتدائية تتميز بالإستقرار غالبا(مريم طالبة طموحة)
    العقدة و هي إكتشاف مريم للمرض(غيرت مجريات القصة)
    الان نعرج على الحل ..
    أنت قلت أن مريم أصبحت بائعة هوى و تغيرت مبادئها بمحاولتها نقل العدوى إلى أكبر عدد ممكن من الأفراد(حل سلبي)
    و لكن إن سمحت دعيني أرسم سبيلا اخر للقصة..
    لماذا مريم تصبح انسانة ملتزمة و تنطلق في درب مساعدة المحتاجين و المرضى؟و تسعى الى انقاض أكبر عدد ممكن من الناس)حل ايجابي)
    في كل هذا و ذاك القصة أوصلت رسالتها ..
    شكرا لك و اسف على الازعااااج
    سلام

إرسال تعليق

مرحبا بكلماتكم الطيبة